والنبي صلى الله عليه وسلم ترك الدنيا زهداً فيها، ورغبة عنها، ولو شاء لأعطي بطحاء مكة ذهباً، وفتح الله عليه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم من كنوز الأرض، ومن غنائم الفتوح والفيء مما جاء من البحرين ، ومن خيبر وغيرها، ولكنه ظل يعيش عيشة الفقراء؛ حتى إن الحصير قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم.
فهكذا كان حاله وحال زوجاته الطاهرات الكريمات، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وسع الخلفاء الراشدون على زوجاته من بعده، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد اختار ذلك لنفسه، كما قال: ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة )، وهو يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، فقد خيره الله بين هاتين، فاختار صلى الله عليه وسلم الآخرة.
وبهذا يظهر فضل النبي صلى الله عليه وسلم على كلا النوعين من الرسل، فهناك أنبياء ورسل أعطاهم الله تبارك وتعالى المال، وأعطاهم الغنى، وآخرون كانوا فقراء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع بين صبر الفقراء على الفقر، وزيادة على ذلك أنه شكر، وأنه أعطي الدنيا، ولو أرادها لكان من الأغنياء، فاختار حياة الفقراء اختياراً منه، فإذا كان له فضل -وهم كذلك لهم فضل على الصبر- فهو أفضل منهم؛ لأنه اختاره اختياراً.
وهو أفضل من أولئك الأغنياء؛ لأنه أعطي ما أعطوا، ومع ذلك اختار ما هو أقرب وأكمل، اختار الدار الآخرة.
وهو صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار العبودية، فهو بهذا أكمل من نبي الله سليمان وداود عليهما السلام؛ لأنهما كانا ملكين رسولين، وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فاختار أن يكون عبداً رسولاً؛ لأن العبودية أعلى وأفضل.